ذهب بعض المؤرخين
إلى ان تاريخ النجف العلمي يبدأ مع ابتداء السكن فيها, أي منذ القرن الثاني الهجري
أو بعده على الأقل، بدليل ظهور بعض الإجازات العلمية بالاجتهاد التي يرجع تأريخها
إلى القرن الرابع، وبدليل وجود خزانةٍ للكتب في النجف كان ممن عني بها عضد الدولة
البويهي المتوفي سنة 372 هـ, وبدليل ما استنتج البعض من احتكاك النجف بالكوفة منذ
أول تمصير النجف وسكناها، ومن هؤلاء الشيخ عليّ الشرقي الذي يقول: ففي القرن
الثاني للهجرة بدأت العمارة والتشييد لمدينة النجف تدريجياً، فانتقلت المدرسة من
الكوفة إليها، وبقيت الكوفة تصب في بحر النجف، ومن بداية القرن الثالث للهجرة ظهرت
شخصيات علمية في النجف، مثل شرف الدين بن عليّ النجفي، وأحمد بن عبدالله الغروي،
وابن شهريار.وقد يدل على وفرة طلاب العلم في النجف كثرة ما بذله عضد الدولة في
القرن الرابع على علماء النجف وفقهائها.
أما الأمر الذي لا
شبهة فيه فهو ان تاريخ النجف العلمي قد بدأ في منتصف القرن الخامس الهجري، على أثر
هجرة الشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ بن الحسن الطوسي المعروف (بشيخ
الطائفة)، فقد كان الشيخ الطوسي قد انفرد بزعامة الشيعة في بغداد بعد وفاة الشريف
السيد المرتضى، وكان للشيخ الطوسي مكانٌ مرموقٌ في الأوساط العلمية، وكان له كرسيٌّ
للبحث والدرس، وكانت داره في الكرخ مأوى الرواد والمتتبعين من رجال العلم
والتأليف، وقد بلغ من العظمة والرفعة العلمية أن صارت عدة تلاميذه اللذين يحضرون
بحثه وكلهم من المجتهدين نحو (300) مجتهد.!!وحين حدوث الفتنة بين الشيعة والسنّة
واستفحال أمرها في أيام طغرل بك أول ملوك السلجوقيين الذي ورد بغداد سنة 447
هجرية، والذي شنَّ على الشيعة حملةً شعواء هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف بعد أن
نُهب بيته واُحرقت كتبه.قال ابن الجوزي في حوادث سنة 449: وفي صفر من هذه السنة
كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة بالكرخ، وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسيٍّ
كان يجلس عليه للكلام، وأُخرج إلى الكرخ واُضيف إليه ثلاثة سناجيق بيض كان الزوار
من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة فاُحرق الجميع.وكانت
للشيعة ببغداد مكتبة أنشأها (أبو نصر سابور ابن أردشير) وزير بهاء الدولة البويهي،
سنة 381 هـ بين السوربن في الكرخ، وكانت هذه المكتبة أهم المكتبات على الاطلاق
بالنظر لما كانت تحتوي عليه من كتب قيمة منفردة، فقد جمع لها هذا الوزير الكتب من
مختلف الجهات والأماكن من العراق، وفارس، والهند، والصين، والروم على ما ذكر محمّد
كرد عليّ.
وقد جاء في
المنتظم: ان محتوياتها لم تقل عن عشرة آلاف مجلد، وكان فيها مائة مصحف بخطوط بني
مقلة، وقد ضمت نوادر الكتب وأعلاقها، ومن ذلك نسخة من ديوان عدي بن زيد، إلى مئات
من الكتب التي انفردت بها هذه المكتبة السابورية التي قد تسمى (بدار العلم) أيضاً.
وكانت هذه الدار
موئلا للعلماء والباحثين يترددون إليها للدرس والمناظرة والمباحثة ومن أشهر روادها
كان الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري فقد طالما ذكرها وذكر بعض القائمين على
أمرها، وآثر الإقامة بها يوم كان ببغداد, وكان جماعة من العلماء يهدون مؤلفاتهم
لهذه الخزانة وكان أكثرها بخطوط المؤلفين أنفسهم.
قال ياقوت الحموي: وبها خزانة الكتب التي أوقفها
الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ولم يكن في الدنيا
أحسن كتباً منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة واُصولهم المحررة, وكان يشرف
على هذه المكتبة ويتعهدها عددٌ من كبار الرجال وأئمة العصر.
وقد أورد التاريخ اسم الشريف المرتضى ضمن
المعنيين بهذه المكتبة، وقد أكثر المؤرخون من ذكر هذه المكتبة، وما تحتوي عليه من
نفائس المخطوطات، التي مثلت أكبر مجموعة من مختلف الثقافات، وقد أمر طغرلبك
باحراقها، فضاعت بذلك ثروة لا تعوض من العالم الإسلامي، والعالم العربي، والعالم
الشيعي خاصة، فكان لابد اذن من أن تتجه الفكرة بعد انتقال الشيخ الطوسي إلى النجف
واتخاذها مركزاً علمياً، إلى التعويض عن تلك الخسارة الجسيمة التي سببها احراق
المكتبة السابورية، فكان هذا مبدأ انتعاش المكتبة التي يسميها البعض (بالمكتبة
العلوية) والبعض (بالمكتبة الحيدرية) والبعض الآخر (بمكتبة الصحن الشريف) في
النجف، وهي المكتبة التي قيل ان تاريخ تأسسها يرجع إلى القرن الثالث أو ما بعده
على الظن القريب.
وبانتقال الشيخ
الطوسي إمام الشيعة في عصره إلى النجف انتقل النتاج الفكري من جميع المدن
الإسلامية الشيعية لغرض التلمذة على منبر النجف، وهاجر الجمع الغفير من سائر
الأقطار الشيعية، بالأدب ومواعين الأدب على حد تعبير الشيخ عليّ الشرقي، فأوجدوا
في النجف حركةً فكريةً تمتاز عن الحركة الفكرية في اُمهات المدن العراقية، وكانت
المكتبات وما بدأت تجمع من الكتب النادرة، من أعظم أحداث الثقافة، وأهم ما تتميز
به النجف، حتى لقد ندر أن يكون هنالك عالم ديني دون أن تكون له مكتبة خاصة، تحتوي
على الكثير أو القليل من نوادر الكتب الخطية الفريدة.
يقول الدكتور صالح
أحمد العلي... وبدأت العناية الشعبية والرسمية في حفظ التراث ومنعه من التسرب,
وقامت محاولاتٌ متعددةٌ لجمع المخطوطات وصيانتها في مكتبات عامة موحدة يتاح
للراغبين فيها القراءة والبحث، وأظهر تلك المحاولات هي التي قام بها نفر من
(الغيورين) والعلماء في النجف والبصرة لهذا الغرض.
وقد بلغ من شأن
الكتاب وحتى الكتاب (العادي) أن يتقبله البزاز، والبقال، وغيرهما، رهينةً عن مبلغٍ
ربما تجاوز ثمنه أضعافاً مضاعفة، وكثيرون اُولئك الذين رهنوا مكتباتهم كلها أو
بعضها في الأجيال الماضية للخروج من ضائقةٍ ماليةٍ كبرى.. وانحصرت الثروة الكبيرة
ـ ان جاز ان تسمى ثروة ـ عند هذه الطبقة من أهل العلم، والبحث، والدرس بالكتب،
فراجت تجارتها، وراح يطوف تجار الكتب في أغلب الأقطار الإسلامية كالهند، وايران،
ويجمعون الكتب النادرة الفريدة وغير الفريدة، من المخطوطات القديمة فيأتون بها إلى
النجف ويزفون البشارة إلى هواة الكتب، والعلماء، والاُدباء، بما احتوى عليه
تطوافهم من نفائس الكتب، ونوادرها قبل وصول الصناديق، أو قبل فتحها، فيستعد
الشراؤون للشراء، قبل وصول البضاعة بأيام، ومن الذين عرفوا بمثل هذه التجارة في
الحقبة الأخيرة كان آل الدشتي، وآل زاهد، وآل العاملي، وآل الشيخ صادق الكتبي،
وكان هذا أشهرهم.
والتزم الوراث حين
يموت المورث من أصحاب الكتب والخزائن بالمحافظة على المخلفات من هذه الكتب،
ورعايتها، فلا يفرطون فيها إذا كان الوارثون من أهل العلم والمعرفة ما لم تكن
هنالك حالة اضطرارية ترغمهم على اقتسام هذه الكتب، أو بيعها، فإذا ما
اضطروا لبيع كتبهم نزلوا بها إلى سوق (المزاد) وسوق (المزاد) هذا سوق خاصٌّ
بالكتب، يقام في كل يوم خميس، ويوم جمعة، من كل اُسبوع، وهما اليومان اللذان تعطل
فيهما الدراسة في النجف، فينتهز باعة الكتب هذه الفرصة، وينزلون بالكتب التي يعهد
إليهم ببيعها إلى السوق، وتبدأ المزايدة من قبل الأساتذة وشيوخ العلم، والهواة،
والطلاب، ولم يزل هذا السوق قائماً منذ العصور القديمة حتى اليوم.
وعرفت النجف في
عصرها الأخير جماعةً من العلماء عدّوا حججاً في معرفة الكتب النادرة من المخطوطات
وقيمتها، وقد كسب هؤلاء من الشهرة ما استدعى أن يذكرهم التاريخ الحديث كخبراء
بالكتب، ومؤلفيها، خبرة ابن النديم، وقد أدرك جيلنا منهم الشيخ عليّ كاشف الغطاء،
والشيخ محمّد السماوي، والسيد جعفر بحر العلوم، والشيخ عبدالحسين الحلي، الشيخ أغا
بزرك، والشيخ محمّد رضا فرج الله.
وفي يوم (المزاد)
تتجه الأنظار كلها إلى الخبراء الذين يعرفون قيمة الكتب النادرة والمخطوطات،
وخطاطيها، فينافسونهم في شراء الكتب التي يحاول هؤلاء الخبراء شراءها، لذلك كثيراً
ما اضطر هؤلاء الخبراء للاستعانة بالبعض لشراء الكتب التي يعينونها لهم، وهم
يجلسون عن كثبٍ منهم خوفاً من منافسة الجهلة التي قد تسبب ارتفاع ثمن الكتاب أكثر
من ثمنه المتعارف.
ويقول جرجي زيدان
وفي النجف عادة قديمة لا توجد في سواها من بلاد العراق وهي انه في كل نهار خميس،
وجمعة، تقوم سوق تعرض فيها الكتب، وتباع في المزايدة، فمنها ما يباع بثمن بخس وهو
ثمين، ومنها ما يباع بثمن غال وهو لا يساوي فلسا، وما ذلك إلاّ من جهل البعض
ودراية البعض الآخر وذكائهم في مشترى المصنفات وكثيراً ما تعرض في سوق (المزاد)
هذا رزم من أوراق وكتب وكراريس مشدود بعضها إلى بعض، فينزّلها من (يدلّل) بالكتب
وينادي عليها في ميدان البيع باسم (الصفقة) وينادي عليها بصوت عال قائلا: انها
صفقة لا تباع إلاّ جملة واحدة على كل عيب شرعي وكثيراً ما يعثر المشترون في هذه
(الصفقات) على نفائس لا تثمن من المواثيق التاريخية، والكتب المفقودة، والنصوص
الضائعة.
ولم يكن الانتقال
في العصور السابقة من بلد إلى آخر خصوصاً إذا كانت المسافة شاسعة بالأمر الهين
اليسير، لذلك فإنّ الكثير ممن يكون قد أنهى دراسته، وراهق الاجتهاد، وأزمع النية
على العودة إلى بلده، انزل كتبه إلى سوق المزاد، وباعها، أو أنه أوقفها على طلاب
العلم والمعاهد فصار الكتاب الذي يدخل النجف لا يخرج منها إلاّ نادراً وفي حالات
استثنائية، فتوسعت مكتبة النجف وصارت المخطوطات النادرة، سواء من المصاحف الفنية،
أو الكتب التاريخية، أو الدينية، والأدبية، والكراريس في زيادة مستمرة جعلت مكتبات
البيوت، والمكتبات العامّة، تزخر بها وتنمو يوماً بعد يوم.
يقول جورجي زيدان
عن مكتبات بغداد هي اُمّ المكتبات إلاّ أن كتب النجف أقدم خطاً وأندر وجوداً،
وأتقن كتابة، وموضوعاتها مختلفة وتأريخ المكتبات النجفية، لم يعرف مكتبة عاشت أكثر
من 100 ـ 150 سنة باستثناء (المكتبة العلوية) فقد تموت المكتبة بموت صاحبها، وتبعث
في مكانٍ آخر بانبعاث شخصٍ جديد، وكم تألفت مكتبات ذات صبغة عامة، حوت مئات الكتب
الموقوفة، ثم ما لبثت أن زالت من الوجود، أو استحالت إلى مكتبات خاصة.
يقول الشيخ عليّ
الشرقي: ومن النوادر ان شيخاً من شيوخ الأدب يظهر انه كان رقيق الدين، عرض عليَّ
شراء كتب مخطوطة، كانت عليها شارة التحبيس، فقلت له كيف تبيع الوقف المحبّس؟ فقال
اني لا أرى الملكية في الكتاب، لأنّ المؤلف يريد بث المعرفة واشاعة أفكاره، وما
ملكية الكتاب إلاّ استيعابه قراءة فقط، وعليه فالكتاب لا يملك، أما الثمن المبذول
فهو عوض عن قراءته فقط، ولما كانت القاعدة الفقهية القائلة (لا وقف إلاّ في
ملك)فمن الغلط أن يقال هذا الكتاب وقف.
وقريب من هذا الرأي
ما ذهب إليه جماعة من ذوي الفضل ايثاراً وسبيلا للمنفعة في كتبهم لكل من يريد
الاستفادة بقراءتها، قائلين: ان غلة الكتاب قراءته، وزكاة تلك الغلة اعارته،
ويعاكس هذا الرأي من يوصد باب مكتبته في وجوه الطلاب، شحةً وضنةً، وكثير اُولئك
الذين يقبضون على الكتب قبضة الشحيح.
ويقول الشرقي: اتفق
لي وأنا صبي ان ألج على ضنينٍ بالكتب، مكتبته التي صفت فيها الكتب النفيسة وراء
أبواب الزجاج، وكانت المكتبة مفروشة بالطنافس، والسجاد الايراني الممتاز، فوجدت
صاحب المكتبة جالساً على طراحة في زاوية تلك المكتبة، وهو كفيف البصر، وإلى جانبه
قارىء يتلو عليه ما يريد تلاوته، وبينا أنا اُطارحه الحديث رفعت يدي، فاصطدمت بباب
الخزانة، وعندما سمع نقرها اضطرب انزعاجاً، واستفهم بارتباك، ولم تهدأ روعته حتى
عرف أنها الصدفة ولم يحدث شيء..!!.ويتابع الشرقي حديثه فيقول ويدور الزمن، ويموت
ذلك الجمّاعة للكتب، ويهم وارثِه بحمل ما في المكتبة إلى معرض الكتب للبيع فيستعين
بي وبرفيق لي لنعرفه بالمهم من تلك النفائس، وتثمينها وعند دخولي المكتبة دهشت حين
وجدتها شعثاء، موحشة، قد فارقت رونقها، وكان التراب فراشها والغبرة تعلو خزاناتها،
ومد لنا حصير جلسنا فوقه، وكان رفيقي لا يعلم بما يخالجني، وبينا نحن منهمكون
باستعراض بعض الكتب المبثوثة في تلك المزبلة لا المكتبة، إذا برجَّةٍ تهز الغرفة،
فحولت بصري ووجدت أحد الورثة قد وضع سلماً خشبياً وصعد عليه واضعاً يده وراء
النضدة من الكتب، يدفعها لتطيح على الأرض لأنه تعب من تناولها كتاباً كتاباً،
فتذكرت ذلك الكفيف وفزّته من نقرة الباب، وكيف أربكته، وقلت من لي به ليسمع ويشاهد
ما فعله هذا العابث البطر؛ لذلك فليس اليوم أثر، ولا بعض أثر للمكتبات العامة التي
ألحقت بالمدارس الدينية العلمية قديماً.
أما المكتبات
الخاصة فكم بالأولى أن تزول من الوجود، بعد زمن قصير، حين يكون الوارثون لها
مضطرين لبيعها، أو مهملين لرعايتها، وعلى هذا فما كان من المكتبات في القرون الأخيرة
كالرابع عشر والثالث عشر مثلا هو غير ما كان في القرن الثاني عشر والحادي عشر وما
قبل ذلك.
وما كانت يملكه آل
(الملالي) مثلا من نفائس المخطوطات في أوائل القرن الثالث عشر هو اليوم من ممتلكات
طوائف كثيرة من أهل العلم في النجف وهو يؤلف جزءاً من مكتبات لم يكن لها أي وجود
قبل هذا القرن، وهذا ما جعل من الصعب على المؤرخين أن يعرضوا لتأريخ هذا العدد
الهائل من المكتبات التي كانت تنشأ في جيل وتزول في جيل آخر، لقلة المراجع التي
يعول عليها المؤرخ ومع ذلك فاننا سنعرض هنا كل ما وسعنا أن نستخلصه من المصادر
المثبتة، أو الذي حققناه بأنفسنا مما يدخل ضمن معلوماتنا الخاصة.
1- مكتبة الامام أَمير المؤمنين (عليه السلام) العامة.
2- مكتبة الإِمام الحكيم
العامة.
3- مكتبة الامام
الحسن (عليه السلام).
4- مكتبة الروضة
الحيدرية.
5- مكتبة كاشف
الغطاء.
6- مكتبة الصادق
(عليه السلام).
7- المكتبة
الأَدبية المختصة/ حي الحسين (عليه السلام).
8- الكتبة الوطنية
العامة/ خان المخضر.
9- مكتبة اسرة ال
حنوش/ قرب بيت السيد السيستاني.
10- مكتبة جامعة
النجف الدينية.
11- مكتبة ابو
سعيدة الوثائقية.
12- مكتبة المدرسة
الشبرية.
13- مكتبة كلية
الفقة/ جامعة الكوفة.