رَوَاسِبُ الجاهلية وعقدّة الانفتاح، جدل وصراع أخذت محاوره تتبلور في
الثُلث الأوّل من القرن الماضي، ومازالت تحط رحالها بين هذين الاثنين؛ مشرق أو
مغرب، يتخبط اليساري فيها على حساب كل القيم والمواريث والعادات والمبادئ التي
امتلكتها الأمة في ماضيها، والآخر يقف حاجباً لكل مظاهر التقدم والازدهار المعرفي
والتقني، فهو يميني بقسوة، يستمد جذوره من أبن سبأ ومن لف لفه ليصنع كيانا
(القاعدة أو الوهابية) لا فرق، يشاهد الناس في عينه الواحدة العوراء كفرة، يدعي أن
أجنداته الحصول على وجبة طعام مع الرسول بقتل أمته (والعياذ بالله)!.
وبعيداً عن الخوض في دوامة حوار المؤامرة التي يُعد حوارها عقيماً، نقف عند
أزمة العقدة، ومنها التحفظ الديني فهو الطاغي الأكبر في مجتمعاتنا اليوم، لاسيما
بعد الإنعتاقة من جلاد مقيت في بلد ترعرعت فيه أكبر وأعظم حضارات الأرض، وتلاقحت فيه رسالات السماء بكل سماحة
ورحمة، فمن المؤسف أن يشهد رعاع من ينسب نفسه للثقافة، أن الدين هو العقدة، ويتذرع
بعقدة اليميّنِي القاسي على أنه مظهر من مظاهر الهبوط في التقدم والرقي، ليعمل على فتح
الباب على مصراعيه نحو ثقافات غريبة، أطلت علينا من وسائل اتصال عالم اليوم، تلك التي تدخل
حياتنا دون استئذان ولا حياء، لتحاول أن تدمر ما حملته ثقافتنا من أصول وركائز.. فمعلوم أن
اليساري هذا قد فشل في تعريف أصل مفردة الثقافة، وأعني بذلك ما حملته هذه المفردة في أبسط معانيها
اللغوية: (ثقف: أي صار حاذقاً خفيفاً فطناً، والمثقف: إذا كان ضابطاً لما يحويه
قائماً به، والثقاف: ما تسوى به الرماح، والتثقيف: التسوية، ويقول ديمتري أفييرينوس: ثقَّف الرمح، سنَّه. كما يمكن لك أن تقول: تثقيف الغصن، بمعنى
"تشذيبه"، وهكذا يقول محمد علي عبد الجليل: أصل معنى ثقافة بالعربية هو
تقويم اعوجاج الرمح ليستوي ويعتدل).
وهنا لم نقصد من هذا السردّ إلّا لنبيين للقارئ العزيز،
أن مدعي الثقافة، على حساب مصادرة الماضي والأصول والثوابت، والانفتاح على الآخرين
دون ضوابط وحدود، هم أبعد ما يكونون عن الثقافة ومعانيها.
وهنا يتبادر السؤال، من البديهي أن اليمين المتعصب
والمتطرف، هو قمة الجمود، وهو في غاية البعد عن أدنى حراك للذهن، والآخر هو جاهل
يتشبث بالآخرين من جراء عقد تكنه ذاته، أين الصحيح في هذه المعاني؟ فيأتي الجواب،
قال تعالى: (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، فهي أن لا ندوس على ثوابتنا،
وننسى ماضينا، بل نحافظ على جذورنا، ونقف بتأمل عند كُل ما يردنا، لنميز الزَّبَدَ
من الجلد، لنكون نحن لا غيرنا، نُعلن انتمائنا بكل صدقّ، قولاً وفعلاً، وكيف لا
وهو أشرف وأعظم وأقدس انتماء في الدنيا والآخرة "أمة محمّد (ص)"، نعم
تعالوا نشذب ونهذب أغصان أفكارنا، ونزيل عنها تلك الأوراق اليابسة، وتلك الهوام
الأجنبية، لتثمر علينا بخير الدنيا والآخرة.
نصير الحسناوي